نقاط : 0 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: نعمة الاختراع من أعظم نعم الله علينا الثلاثاء مايو 25, 2010 9:51 am | |
| طوال آيات القرآن يجد المرء كثرة امتنان الله على الناس بتسخير الآيات العظيمة لهم كالشمس والقمر والليل والنهار والرياح والمطر والأنعام والطيور وغيرها .. يستطيع المرء أن يفهم جيداً وجه الامتنان على الناس بهذه الآيات العظيمة التي خلقها الله لهم وجعلها من أساسيات المعيشة الكريمة على كوكب الأرض .. فهذه الآيات تدور حول الأغذية والبيئة والصحة ونحوها من أسس الوجود البشري.. بل إن كثيراً من الناس حين يذكّرهم شخص بوجوب حمد الله وشكره على نعمه فإن أذهانهم تنصرف دوماً إلى نعمة الرزق والولد والمطر والأمن ونحوها.. لكن هناك مستوى آخر من المنن ذكره القرآن .. منّةٌ قليل من الناس من يتفطن لها .. بل كثيرمن الناس قلب معناها الذي أشار له القرآن للأسف.. هذه المنة ليست امتنان الله على الناس بمصنوعات الله المحضة؛ بل الامتنان على الناس بما هو من مخترعاتهم أنفسهم! أن يذكّر الله العباد بآيات خلقها الله بصورة محضة كالمطر والشمس والقمر ونحوها فهذا أمر مدرَك لدى الكثيرين .. لكن أن يمتن الله على الناس بما أبدعوه بأنفسهم! ويجعل هذا من آيات عظمة الله ذاته فهذا معنى يغيب عن الكثيرين .. هذا القصور في فهم وجه امتنان الله على الناس بما هو من ابداعاتهم واختراعاتهم من أسباب اهتزاز إيمان كثير من المنتسبين للثقافة لما رأو انفجار العلوم والمخترعات الإنسانية في هذا العصر.. وصار كل تطور علمي يشاهدونه يسحب المزيد من رصيد إيمانهم وثقتهم بدينهم.. لماذا؟ لأنهم لم يدركو سراً من أجمل أسرار القرآن .. إنه (امتنان الله على الناس بما هو من مخترعاتهم).. حسناً .. سنتناول أمثلة لهذا التنبيه القرآني.. من أقدم الاختراعات التي اخترعها الإنسان هو (اختراع السفينة) وذلك فور احتياج البشرية إلى التنقل عبر المياه، ويذكر "جارلي" في كتابه (فلسفة بناء السفن) نقلاً عن علماء الحفريات (الأركيولوجيون) بأن أوائل صناعة السفن ظهر مع قدماء المصريين حوالي 3000 سنة قبل الميلاد وذكر شيئاً من تفاصيل طرائقهم في جمع الخشب والتنقل عبر وادي النيل (انظر: Frederick & Ward, p13) وأنا شخصياً مهزوز الثقة بهذه التعيينات التاريخية التي يذكرها الأركيولوجيون، لكن القدر الذي نجزم به أن السفينة اختراع بشري قديم.. ومع ذلك .. أي مع أن السفن هي من بنات أفكار الإنسان ومخترعاته إلا أن الله امتن على عباده بهذه السفن فقال تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ). واعتبر الله السفن من نعم الله فقال سبحانه (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ). بل قرن الله (السفن) بوسيلة نقل أخرى هي من محض خلق الله وهي (الأنعام) فقال تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ). فبالرغم من أن الأنعام من مخلوقات الله المحضة، والسفن من مخلوقات الله على يد الإنسان الذي اخترعها.. فإن كليهما جعله الله موضع امتنان، وجعلهما في نفس المرتبة وكأنهما مجرد مثالين لنوعين من الامتنان بحيث يعتبر الإنسان بهما ماكان من جنسهما.. وكان القرآن يشير في أكثر من موضع إلى جمال حركة السفن وهي تمخر عباب البحار كقوله تعالى في (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ). فإذا تأمل متدبر القرآن كيف يمتن الله على الإنسان بالسفن برغم أنها من مخترعات بني آدم أصلاً، علم أن مخترعات وعلوم الإنسان ليست منافسة لقدرة الله، أو مزاحمة لها، بل هي مظهر إضافي جديد من مظاهر قدرة الله تورث المؤمن مزيد تعظيم لله كيف أقدر بني آدم وأمكنهم من ذلك.. حسناً .. دعنا نتأمل في نموذج قرآني آخر .. وليكن اختراع (القلم) .. فإن القلم من المخترعات المبكرة للإنسان .. ويذكر المؤرخون تطور أنواعه كالأقلام التي من ريش الطيور، وأقلام القصب، والقلم المزود بمخزن حبر، وقلم الرصاص ثم أنواع الأقلام المعاصرة، ويذكر العالم الألسني روجرز في كتابه المتميز (أنظمة الكتابة) بأن أقدم كتابة فعلية معروفة تعود إلى مدينة أوروك السومرية العتيقة (Rogers, p.84). على أية حال .. ومع أن القلم وأنظمة وأنماط الكتابة هي ابتكارات بشرية إلا أن الله سبحانه وتعالى يمتن على عباده بهذا الذي اخترعوه هم فيقول سبحانه (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) .. بل يجعل سبحانه سورة كاملة باسم القلم يستفتحها سبحانه بالقسم بالقلم فيقول تعالى (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) ورجح كثير من المحققين أن القلم هنا هوجنس القلم.. ويمكن لمتدبر القرآن أن يرى –أيضاً- نماذج أخرى مما يمتن الله فيها على عباده بما هو من مصنوعاتهم، فمن ذلك أيضاً (فن النحت) فإنه من مبتكرات الإنسان وأفكاره وإبداعاته الجمالية، ومع ذلك فإن الله سبحانه امتن على ثمود بأعمالهم الجمالية في المدائن في الحجر شمال الجزيرة العربية فخاطبهم تعالى بقوله (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ). ومن أعمال بني آدم ومنتجاتهم فن العمارة وتصنيع المساكن، ومع ذلك امتن الله على عباده بما هو من مصنوعاتهم فقال تعالى (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا). ومن إبداعات الإنسان فن الغزل وصناعة النسيج، ومع ذلك يمتن الله على الإنسان بما هو من إبداعه فيقول تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ). ومن ابتكارات بني آدم الصناعة العسكرية وأدوات الدفاع في الحروب؛ ومع ذلك يمتن الله على عباده بذلك ويسميها نعمة فيقول تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ). والقرآن مملوء بالإشارات إلى امتنان الله وإظهار تفضله وإنعامه على العباد بما هو من مصنوعاتهم ومخترعاتهم وعلومهم، وبما بذلوا هم الجهد في علمه ومعرفته، ولن يعوز متدبر القرآن أن يجد نظائر أكثر من ذلك .. ومن المدهش أن يلاحظ المرء كيف يؤكد الله الامتنان بكلا النوعين: بما عملته يد الله، وبما عملته أيدي المخلوقين .. فيمتن علينا فيما عملته أيدي الله فيقول (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) .. ويمتن علينا تعالى بما عملته أيدينا فيقول (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ) .. فحتى ماتعمله أيدينا إنما هو محل امتنان بقدرة الله وعظمته ونعمته لأنه هو الذي زودنا بهذه الآلات والإمكانيات.. العقل العلمي الصحيح يقوده التقدم المعرفي إلى زيادة تعظيم الله .. والعقل البليد ينصاع لعلمه بدلاً من أن ينصاع لرب علمه .. وحين يعبد الإنسان علمه الذي أنتجه بعقله، وحين يعبد الإنسان فنه الذي نحته بيده؛ فهو لايبتعد كثيراً عن قوله تعالى (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) .. الإنسان الذي في قلبه مرض كلما رأى انفجار العلوم المعاصرة داخلَه الاستعلاء على دين ربه ومولاه، والقلب السليم كلما رأى هذه العلوم المعاصرة ودقة فنونها وصناعاتها ازداد تعظيما لربه كيف أقدر بني آدم ومكّنهم من هذا الابداع في العلوم الطبيعية والإنسانية والمفاهيم العقلية الدقيقة! كيف وضع الله في العقل البشري كل هذه الإمكانيات، في هذا الجرم الصغير (العقل) عوالم متكاملة منظمة فسبحان بديع السموات والأرض.. العلوم المعاصرة بالنسبة للرجل العاقل تزيده إيماناً، فإذا ازداد إيماناً ازداد خضوعاً وانصياعاً للوحي .. والشخص السطحي إذا رأى العلوم المعاصرة ازداد ارتياباً في ربه ودينه وشرائع الوحي، فإذا داخلته الريب وتزعزع اليقين تعثر الانقياد وفاته شرف عبودية التسليم .. ويمكن أن يلتمس المرء في القرآن هذه العلاقة بين قصور إدراك النعم من حولنا وبين التطاول على الشريعة .. كما قال تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) فلو أدرك هذا المجادل في دين الله النعم من حوله على وجهها لقاده ذلك للانقياد وترك المجادلة في الله وفي دين الله.. كنت مرةً أقرأ مواضع من تفسير أضخم مرجعية فقهية سنية معاصرة وهو الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- فوجدته يقول: (الطائرات منة من الله عز وجل كمنته على عباده في جواري البحار، بل ربما نقول: إن السيارات أيضا من جواري البر) [تفسير سورة الرحمن، 24]. فلما قرأت ذلك أخذت أتعجب من صحة عقول أئمة أهل السنة وسلامة نظرهم، وكيف يصلون إلى المعاني الصحيحة بأيسر الطرق وأقرب الأسباب بلاتكلفات المفكرين ولاتقعرات المتفلسفة، وكيف تنسجم لديهم العلاقة بين الكوني والشرعي فيضعون لكل شئ موضعه.. والمراد من ذلك كله أن ينظر المرء كيف أن هذا التقدم العلمي المادي أنه من أدلة الإيمان والتسليم والانقياد لله وتعظيمه جل وعلا وتعظيم شريعته؛ فصيره الجهلة طريقاً لضد ذلك! والله أعلم نقله وجمعه لكم محاسب / طارق الجيزاوى
| |
|